فصل: الشبهة السادسة وجوابها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.الشبهة السادسة وجوابها:

ما زعمه صاحب ذيل مقالة في الإسلام من أن القرآن قد أسقط منه ما هو منه، وزيد فيه ما ليس منه، وأيد زعمه بما يأتي:
1- ما ورد في الحديث أن محمدا صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله فلانا لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا» وفي رواية: «أنسيتها» فهذا فيه اعتراف من النبي بأنه أسقط بعض الآيات، أو أنسيها.
2- ما جاء في سورة الأعلى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} وزعم هذا المفتري أن النبي صلى الله عليه وسلم أنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها.
3- قال: إن الصحابة قد حذفوا من القرآن ما رأوا المصلحة في حذفه فمن ذلك آية المتعة، أسقطها عليّ بتة وكان يضرب من يقرؤها، وهذا مما شنعت عائشة به عليه، فقالت: إنه يجلد على القرآن وينهى عنه، وقد حرفه وبدله، وما روي أن أبيّا كان يكتب في مصحفه: اللهم إنا نستعينك... إلخ، الدعاء ولا يوجد اليوم في المصحف.
4- قال: إن كثيرا من آياته لم يكن لها من قيد سوى تحفظ الصحابة، وكان بعضهم قد قتلوا في الغزوات، وحروب خلفائه الأولين، وذهب معهم ما كان يتحفظونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمعه، فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يحفظه الأحياء، أما ما كان مكتوبا على العظام وغيرها فإنه كان مكتوبا عليها بلا نظام، ولا ضبط، وقد ضاع بعضها، وهذا ما حدا العلماء إلى الزعم أن فيه آيات نسخت لفظا لا حكما، وهو من غريب المزاعم، وحقيقة الأمر أنها قد سقطت بضياع العظم، ولم يبق منه سوى المعنى محفوظا في صدورهم.
5- زعم أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية لم يبق مصحفا إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة قد نزلت فيهم، وزاد فيه أشياء ليست منه، وكتب ستة مصاحف وجه بها إلى الأمصار، وهي القرآن المتداول اليوم، وأعدم المصاحف المتقدمة التي كتبها عثمان، وإنما رام بفعله التزلف إلى بني أمية.
6- زعم أن آية: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية من كلام أبي بكر قالها يوم السقيفة، وكذا آية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} من كلام عمر ثم لما جمع القرآن ضم إليه هذا الكلام.
وبالنظر في هذه الدعاوى نجد أنها عارية عن الدليل، وأنها إما ادعاءات وافتراءات، أو تحريفات وتأويلات لبعض الآيات والأحاديث بغير حجة.
وسنناقشه فيما قال كي يتبين للمنصفين أنه لا يعدو أن يكون هراء من القول وإليك تفنيد هذه المزاعم.
1- أما ما ذكره من الحديث فهو ثابت، ولكن حمله ما لا يحتمل وفهمه على غير وجهه، فالرواية الثانية تفسر الأولى، وتدل على أن الإسقاط عن طريق النسيان لا العمد، ولا يضر نسيان النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام يحصل له التذكر إما من نفسه، أو من مذكر كما في الحديث، وزيادة في التوضيح نقول النسيان من النبي لشيء من القرآن على قسمين:
أحدهما: نسيان الشيء الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون».
والثاني: أن يرفعه عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ}.
أما الأول: فعارض سريع الزوال يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}، فهذا تكفل من الله تبارك وتعالى أن يحفظ كتابه عن أي نقص أو زيادة، أو تغيير أو تحريف، وقد ثبت أن القرآن الكريم معجزة المعجزات، فوجب التصديق بكل ما جاء فيه.
وأما الثاني: فداخل في قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها} بضم النون وبغير همز، فالنسيان عارض بشري يجوز على الأنبياء فيما ليس طريقه البلاغ من أمور الدين والشريعة، وذلك كالأمور الدنيوية أما ما كان من الدين والشريعة، مما هو واجب البلاغ فيجوز لكن بشرطين:
أ- أن يكون بعد تبليغه كما هنا.
ب- أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره إما بنفسه، وإما بغيره، وأما قبل التبليغ فلا يجوز أصلا، وهذا ما قام عليه الدليل العقلي؛ إذ لو جاز النسيان قبل التبليغ أو بعده بدون أن يتذكر، أو يذكره الغير لأدى إلى الطعن في عصمة الأنبياء، ولجاز ضياع بعض الشرائع والأديان، وفي هذا تشكيك فيها وإبطال لها.
2- إن ما استدل به من قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} فهو تحريف للكلم عن مواضعه، وزعم من لم يعرف سبب نزول الآية، ولا المراد من الاستثناء، ولا الغرض الذي سيقت له الآية، أما سببها فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى، فأزال الله خوفه بهذه الآية، وأما الاستثناء فالمحققون من العلماء على أنه ليس بحقيقي وإنما هو صوري، يراد منه تأكيد عدم النسيان بتعليق الشيء على ما هو مستحيل وقوعه، وليدل على استحالته بالبرهان، وقد ضمن الله لنبيه تحفيظه له فكيف يشاء إنساءه له قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ} [القيامة: 16- 19] الآيات، ومثل هذا الاستثناء قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا} [الإسراء: 86]، ونحن نقطع أنه سبحانه ما شاء ذلك والغرض من هذا الاستثناء على هذا:
1- تعريفه صلى الله عليه وسلم أن عدم النسيان من فضل الله تعالى عليه، فيديم له الشكر والعبادة والذكر في كل وقت.
2- تعريف أمته ذلك حتى لا يرفعوه صلى الله عليه وسلم من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، كما فعل اليهود والنصارى بأنبيائهم.
وهناك رأي آخر في الآية: وهو أن المراد بما يشاء الله أن ينساه هو ما أراد الله نسخه، فيذهب من قلبه، وأيّا كان المراد فليس في الآية ما يشهد لما زعمه هذا الطاعن.
3- ما زعمه من أن الصحابة أسقطوا ما رأوا المصلحة في إسقاطه تجن على الصحابة وعلى الحق، والواقع، وإنما يزعم هذا من يجهل ما كانوا عليه من عنايتهم بالقرآن، وامتزاجه بلحمهم، ودمهم، وحبهم له حبا يفوق الأهل والولد، ومراقبتهم لمنزل القرآن حق المراقبة، وهل يعقل أن تتفق جماعة تعد بالألوف على باطل من غير أن يقوم بينهم من ينكر ذلك ويجهر به وبحسبك أن تقرأ ما كتبناه في جمع القرآن لترى كيف أحاط الصحابة القرآن بسياج قوي من الحفظ والعناية، فلم يزيدوا فيه حرفا أو ينقصوا منه حرفا، أما ما يذكره عن عليّ أنه أسقط آية المتعة... إلخ، فكذب وافتراء عليه ولا أدري ما يريد الطاعن بالمتعة؛ فإن أراد نكاح المتعة فالآية التي يستدل بها بعض القائلين بإباحته موجودة في سورة النساء لم تحذف، وهي قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، ونكاح المتعة أحل للضرورة ثم حرم إلى يوم القيامة، وإن أراد متعة الحج فآيتها في القرآن موجودة في المصاحف إلى اليوم، قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وأما ما ذكره عن مصحف أبيّ فقد بينت أنه دعاء وليس بقرآن قطعا.
4- أما ما زعمه من أن القرآن لم يكن له من قيد سوى تحفظ الصحابة... إلخ فمردود بأن من بقي من حفاظ الصحابة كان أكثر ممن مات؛ بدليل قول عمر رضي الله عنه للصديق: وإني أخاف أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، وكذلك زعمه أن كتابته مفرقا في العظام وغيرها كانت سببا في ضياع بعضه زعم باطل، ولو أن الاعتماد في حفظ القرآن على الأخذ من الصحف أو من قطع الحجارة أو العظام لجاز هذا الفرض، وليس الأمر كذلك، فالمعول عليه في القرآن هو التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عمن سمع منه، والحفظ في الصدور، وأما الكتابة فإنما كانت لتأكيد المحفوظ في الصدور والوقوف على مرسوم الخط الذي هو توقيفي، ولا شك أن الشيء إذا توارد عليه الأمران الحفظ والكتابة يكون هذا أدعى إلى اليقين، والوثوق به، والاطمئنان إليه، وما دام أن المعول عليه في القرآن الحفظ، فاحتمال ضياع بعض المكتوب فيه لا يضيرنا في شيء، وإن كان هذا الاحتمال بعيدا جدّا؛ إذ كانوا يحافظون على المكتوب غاية الحفظ.
5- أما دعوى أن الحجاج زاد في القرآن، وأنقص منه فدعوى لا وجود لها إلا في خيال قائلها؛ إذ لم ينقل ذلك في أي تاريخ من التواريخ على كثرتها، وذكرها ما صح وما لم يصح، وكيف يفعل الحجاج أمرا إدّا كهذا له خطره، ويكثر المعارضون له، ولا يرتفع صوت في معارضته ومهما قيل في قسوة الحجاج فقد كان هناك من السلف الصالح من لا يخافون في الحق لومة لائم، ويرون موتهم في هذا السبيل استشهادا، ولو فرضنا أن للحجاج قوة أسكتت المؤمنين المخلصين في حياته؛ أفلا يرجعون إلى كتابهم ويرجعونه إلى حالته الأولى بعد وفاته ومثل هذا العمل من أوجب الواجبات وأعظم الفرائض على الأمة.
6- ما زعم من أن آية: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية، من كلام أبي بكر إغراق في الجهل وإسراف في الوهم، والآية قد نزلت بعد أحد وحفظها كثير من الصحابة؛ ذلك أن المسلمين لما أصيبوا في أحد وأشيع بأن الرسول قد قتل اختل نظام الجيش، وفر الكثيرون، وقال بعضهم ليت لنا رسولا إلى عبد الله ابن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا ما بأيديهم من السلاح، وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن النضر عم أنس ابن مالك: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم ألقى بنفسه في القتال حتى لقي ربه شهيدا فأنزل الله هذه الآية ليبين لهم خطأهم فيما فعلوا وقالوا، حينما علموا أن الرسول قد قتل، وأن النبوة لا تقتضي الخلود، وأنه كغيره من الأنبياء، يجوز عليه ما جاز عليهم، وكأن هذا الحاقد الجاهل قد التبس عليه الأمر بما جرى بعد وفاة الرسول، فقد أنكر عمر- في سورة الغضب، وغمرة الحزن- موت الرسول وتوعد من يقول ذلك وغفل عن هذه الآية، وما أن جاء الصديق ودخل على رسول الله وقبله وقال: طبت حيّا وميتا، حتى قال: على رسلك يا عمر، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ثم تلا الآية: {وَما مُحَمَّدٌ} إلخ، قال عمر: فوالله ما إن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني قدماي. (رواه البخاري) إذ قد تحقق ما غاب عنه من أن موت الرسول حق لا شك فيه.
وأما آية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} فليست من كلام عمر، وإنما المروي أن عمر قال: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى بصيغة التمني، فنزلت الآية آمرة بالاتخاذ، فأين أسلوب التمني من الأمر وكون القرآن يوافق عمر في أشياء كان له فيها رأي واجتهاد لا يدل على أنه من كلام عمر وليس بعد الحق إلا الضلال فأنى يؤفكون.